فصل: تابع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **


 وانقضت هذه السنـة كالتـي قبلهـا فـي الشـدة والغـلاء وقصـور النيـل والفتـن المستمـرة وتواتـر المصادرات والمظالم من الأمراء وانتشار أتباعهم في النواحي لجبي الأموال من القرى والبلدان وإحداث أنواع المظالم ويسمونها مال الجهات ودفع المظالم والفردة حتى أهلكوا الفلاحين وضاق ذرعهـم واشتـد كربهـم وطفشـوا من بلادهم فحولوا الطلب على الملتزمين وبعثوا لهم المعينين في بيوتهم فاحتاج مساتير الناس لبيع أمتعتهم ودورهم ومواشيهم بسبب ذلك مع ما هم فيه من المصادرات الخارجة عن ذلك وتتبع من يشم فيه رائحة الغنى فيؤخذ ويحبس ويكلف بطلب أضعاف ما يقدر عليه وتوالى طلب السلف من تجار البن والبهار عن المكوسات المستقيلة‏.‏

ولما تحقق التجار عدم الرد استعوضوا خساراتهم من زيادة الأسعـار ثـم مـدوا أيديهـم إلـى المواريث فإذا مات الميت أحاطوا بموجوده سواء كان له وارث أو لا‏.‏

وصار بيت المـال مـن جملـة المناصـب التـي يتولاهـا شـرار النـاس بجملـة مـن المـال يقـوم بدفعـه في كل شهر ولا يعارض فيما يفعـل في الجزئيات وأما الكليات فيختص بها الأمير‏.‏

فحل بالناس ما لا يوصف من أنواع البلاء إلا مـن تداركـه الله برحمته أو اختلس شيئًا من حقه فإن اشتهروا عليه عوقب على استخراجه‏.‏

وفسدت النيات وتغيرت القلوب ونفرت الطباع وكثر الحسد والحقد فـي النـاس لبعضهـم البعـض‏.‏

فيتتبـع الشخـص عـورات أخيـه ويدلـي بـه إلـى الظلـم حتـى خـرب الإقليم وانقطعت الطرق وعربدت أولاد الحـرام وفقـد الأمـن ومنعـت السبـل إلا بالخفـارة وركـوب الغـرر وجلـت الفلاحون من بلادهم من الشراقي والظلم وانتشروا في المدينة بنسائهم وأولادهم يصيحون من الجـوع ويأكلـون مـا يتساقـط فـي الطرقـات مـن قشـور البطيخ وغيره فلا يجد الزبال شيئًا يكنسه من ذلك واشتد بهم الحال حتى أكلوا الميتات من الخيل والحمير والجمال فإذا خرج حمار ميت تزاحموا عليه وقطعوه وأخذوه ومنهم من يأكله نيئًا من شدة الجوع ومات الكثير مـن الفقـراء بالجوع‏.‏

هذا والغلاء مستمر والأسعار في الشدة وعز الدرهم والدينار من أيدي الناس وقل التعامـل إلا فيمـا يؤكـل وصـار سمـر النـاس وحديثهم في المجال ذكر المآكل والقمح والسمن ونحو ذلك لا غير ولولا لطف الله تعالى ومجيء الغلال من نواحي الشام والروم لهلكت أهـل مصـر مـن الجـوع‏.‏

وبلـغ الـأردب من القمح ألفًا وثلثمائة نصف فضة والفول والشعير قريبًا من ذلك وأما بقية الحبوب والأبزار فقل أن توجد‏.‏

واستمر ساحل الغلة خاليًا من الغلال بطول السنـة والشـون كذلك مقفولـة وأرزاق النـاس وعلائفهـم مقطوعـة وضـاع النـاس بيـن صلحهـم وغبنهـم وخـروج طائفـة ورجـوع الأخرى ومن خرج إلى جهة قبض أموالها وغلالها‏.‏

وإذا سئل المستقر في شيء تعلل بما ذكر‏.‏

ومحصل هذه الأفاعيل بحسب الظن الغالب أنها حيل على سلب الأموال والبلاد وفخاخ ينصبونها ليصيدوا بها اسمعيل بك‏.‏

وفي أواخره وصلت مكاتبة من الديار الحجازية عن الشريف سرور ووكلاء التجار خطابًا للأمـراء والعلمـاء بسبـب منـع غلـال الحرميـن وغلـال المتجـر وحضـور المراكـب مصبـرة بالأتربـة والشكوى من زيادة المكوسات عن الحد فلما حضرت قرئ بعضها وتغوفل عنها وبقي الأمر على ذلك‏.‏

رجع لخبر العجلة التي لها رأسان وهو أنه لما أرسل إبراهيم بك ولده مرزوق بك غلامًا صغيرًا لمصالحة الأمير مراد بك أعطاه هدية ومن جملتها بقرة وخلفها عجلة برأسين وحضر بهما إلى مصر وشاع خبرها فذهبت بصحبة أخينا وصديقنا مولانا السيد اسمعيل الوهبي الشهير بالخشاب فوصلنا إلى بيـت أم مرزوق بك الذي بحارة عابدين ودخلنا إلى اسطيل بعض السواس فرأينا بقرة مصفرة اللـون مبيـاض وابنتها خلفها سواد ولها رأسان كاملتا الأعضاء وهي تأكل بفم إحدى الرأسين وتشتر بفم الرأس الثانية فتعجبنا من عجيب صنع الله وبديع خلقتـه فكانـت مـن العجائـب الغريبـة من مات في هذه السنة من أعيان الناس مـات الشيـخ الفقيه الصالح المشارك الشيخ درويش بن محمد بن محمد ابن عبد السلام البوتيجي الحنفي نزيل مصر حضر دروس كل من الشيخ محمد أبي السعود والشيخ سليمان المنصوري والشيخ محمد الدلجي وغيرهم وتميز في معرفة فروع الفقه وأفتى ودرس وكان إنسانًا حسنًا لا بأس به توفي في هذه السنة‏.‏ ومات

 

العمدة العلامة والرحلة الفهامة المفوه المتكلم المتفقه

النحوي الأصولي الشيخ عبد الله بن أحمد المعروف باللبان الشافعي الأزهري أحد المتصدرين في العلماء الأزهرية حضر أشياخ الوقت كالملوى والجوهري والحفني والصعيدي والشعماوي والدفري وتمهر في الفقه والمعقول وقرأ الـدروس وختـم الختـوم وتنـزل أيامـًا عند الأمير إبراهيم كتخدا القازدغلي واشتهر ذكره في الناس وعنـد الأمـراء بسبـب ذلـك وتحمـل حالـه وكـان فصيحـًا ملسانًا مفوهًا يخشى من سلاطة لسانه في المجالس العلمية والعرفيـة‏.‏

وسافـر مـرة إلـى اسلامبـول فـي بعـض الإرساليـات وذلـك سنـة سـت وثمانيـن عندما خرج علي بك من مصر ودخل محمد بك وكان بصحبة أحمد باشجاويش أرنؤد‏.‏

ومات العلامة الشيخ عبد الرحمن جاد الله البناني المغربي وبنانة قرية من قرى منستير بأفريقية ورد إلى مصر وجاور بالجامع الأزهر وحضر دروس الشيخ الصعيدي والشيخ يوسف الحفني والسيد محمد البليدي وغيرهم من أشياخ العصر ومهر في المعقول وألف حاشية على جمع الجوامع اختصر فيها سياق بن قاسم وانتفع بها الطلبة ودرس برواق المغاربة وأخذ الحديث عن الشيخ أحمد الإسكندري وغيره وتولى مشيخة رواقهم مرارًا بعد عـزل السيـد قاسـم التونسـي وبعـد عـزل الشيـخ أبـي الحسن القلعي فسار فيها سيرًا حسنًا‏.‏

ولم يتزوج حتى مات‏.‏

ومن آثاره ما كتبه على المقامة التصحيفية للشيخ عبد الله الأدكاوي‏.‏

ولم يزل مواظبًا على التدريس ونفع الطلبة حتى تعلل أيامًا وتوفي ليلة الثلاثاء ختام شهر صفر‏.‏

ومات الشيخ الفاضل العلامة عبد الرحمن بن عمر الأجهـوري المالكـي المقـرى سبـط القطـب الخضيري أخذ علم الأداء عن كل من الشيخ محمد بن علي السراجي إجازة في سنة 1156 وعن الشيخ عبد ربه ابن محمد السجاعي إجازة في سنة أربع وخمسين وعن شمس الدين السجاعي في سنـة ثلـاث وخمسيـن وعـن عبـد اللـه بـن محمـد بـن يوسـف القسطمطينـي جـود عليـه إلـى قوله المفلحون بطريقة الشاطبية والتيسير بقلعة الجبل حين ورد مصر حاجًا في سنـة ثلـاث وخمسين وعلى الشيخ أحمد بن السماح البقري والشهاب الإسقاطي وآخرين وأخذ العلوم عن الشبـراوي والعمـاوي والسجينـي والشهـاب النفـراوي والشمس الحفني وأخيه الشيخ يوسف والشيخ الملوي وسمع الحديث من الشيخ محمد الدفري والشيخ أحمد الإسكندراني محمـد بـن محمـد الدقاق وأجازه الجوهري في الأحزاب الشاذلية وكذا يوسف بن ناصر وأجازه السيد مصطفى البكري في الخلوتية والأوراد السرية ودخل الشام فسمع الأولية على الشيخ مصطفى الخليجي ومكث هناك مدة ودخل حلب فسمع من جماعة وعاد إلى مصر فحضر على السيد البليدي فـي تفسيـر البيضـاوي بالأزهـر وبالأشرافيـة وكـان السيد يعتني به ويعرف مقامه‏.‏

وله سليقة تامة فـي الشعـر ولـه مؤلفـات منهـا الملتـاذ فـي الأربعة الشواذ ورسالة في وصف أعضاء المحجوب نظمًا ونثـرًا وشـرح تشنيـف السمـع ببعـض لطائـف الوضع للشيخ العيدروس شرحين كاملين قرظ عليهما علماء عصره‏.‏

ولا زال يملي ويفيد ويدرس ويجيد ودرس بالأزهر مدة في أنواع الفنون وأتقن العربية والأصول والقراءات وشارك في غيرها وعين للتدريس في السنانية ببولاق فكان يقرأ فيها الجامع الصغير ويكتب على أطراف النسخة من تقاريره المبتكرة ما لو جمع لكان شرحًا حسنًا‏.‏

وتوفي المترجم رحمه الله تعالى في سابع عشرين رجب‏.‏

ومات الأجل المبجل والعمدة المفضل الحسيب النسيب السيد محمد بن أحمد بن عبد اللطيف بن محمـد بـن تـاج العارفيـن بـن أحمـد بـن عمـر ابـن أبـي بكـر بـن محمـد بـن أحمـد بـن علـي بـن حسيـن بـن محمـد بـن شرشيـق بـن محمـد ابـن عبـد العزيـز بـن عبـد القادر الحسيني الجيلي المصري ويعرف بابن بنت الجيزي من بيت العز والسيادة والكرامة والمجادة جدهم تاج العارفين تولى الكتابة بباب النقابـة ولا زالـت فـي ولـده مضافـة لمشيخـة السـادة القدريـة ومنزلهـم بالسبع قاعات ظاهر الموسكي مشهور بالثروة والعز وكان المترجم اشتغل بالعلم حتى أدرك منه حظًا وافرًا وصار له ملكة يقتدر بها على استحضار النكات والمسائل والفروع وكان ذا وجاهة وهيبة واحتشام وانجمـاع عـن النـاس ولهـم منـزل ببركـة جنـاق يذهبـون إليـه فـي أيـام النيـل وبعـض الأحيان للنزاعة توفي رحمه الله تعالى في هذه السنة وتولى منصبه أخوه السيد عبد الخالق‏.‏

ومـات السيـد الفاضـل السالـك علـى بـن عمـر بـن محمـد بـن علـي بـن أحمد بن عبد الله بن حسن بن أحمـد بـن يوسـف بن إبراهيم بن أحمد ابن أبي بكر بن سليمان بن يعقوب بن محمد بن القطب سيدي عبد الرحيم القناوي الشريف الحسيني ولد بقنا وقدم مصر وتلقن الطريقة عن الأستاذ الحفني ثم حبب إليه السياحة فورد الحرمين وركب من جدة إلى سورت ومنها إلى البصرة وبغداد وزار من بهما من المشاهد الكرام ثم دخل المشهد فزار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم دخل جراسان ومنها إلى غزنين وكابل وقندهار واجتمع بالسلطان أحمد شاه فأكرمه وأجزل له العطاء ثم عاد إلى الحرمين وركب من هناك إلى بحر سيلان فوصل إلى بنارس واجتمع بسلطانها وذهب إلى بلاد جاوة ثم رجع إلى الحرمين ثم سار إلى اليمن ودخل صنعاء واجتمع بإمامها ودخل زبيد واجتمع بمشايخها وأخذ عنهم واستأنسوا به وصـار يعقـد لهـم حلـق الذكـر على طريقته وأكرموه ثم عاد إلى الحرمين ثم إلى مصر وذلك سنة اثنتيـن وثمانيـن وكانت مدة غيبته نحو عشرين سنة‏.‏

ثم توجه في آخر هذه السنة إلى الصعيد واجتمع بشيخ العرب همام رحمه الله تعالى فأكرمه إكرامًا زائدًا ودخل قنا فزار جده ووصل رحمة ومكث هناك شهورًا ثم رجع إلى مصر وتوجه إلى الحرمين من القلزم وسافر إلى اليمن وطلع إلى صنعاء ثم عاد إلى كوكبان وكان إمامها إذ ذاك العلامة السيد إبراهيـم بـن أحمـد الحسينـي وانتظـم حالـه وراج أمـره وشـاع ذكره وتلقن منه الطريقة جماعة من أهل زبيد واستمال بحسن مذاكرته ومداراته طائفة من الزيدية ببلدة تسمى زمرمر‏.‏

وهي بلدة باليمـن بالجبال وهم لا يعرفون الذكر ولا يقولون بطرق الصوفية فلم يزل بهم حتى أحبوه وأقام حلقة الذكـر عندهـم وأكرمـوه ثـم رجـع مـن هنـاك إلى جدة وركب من القلزم إلى السويس‏.‏

ووصل مصر سنة أربع وتسعين فنزل بالجمالية فذهبت إليه بصحبته شيخنا السيد مرتضى وسلمنا عليه وكنت أسمع به ولم أره قبل ذلك اليوم فرأيت منه كمال المودة وحسن المعاشرة وتمام المروءة وطيـب المفاكهـة وسمعـت منـه أخبـار رحلتـه الأخيـرة وترددنـا عليـه وتـردد علينـا كثيرًا وكان ينزل في بعض الأحيان إلى بولاق ويقيم أيامًا بزاوية علي بك بصحبة العلامة الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ بدوي الهيتمي وحضر إلى منزلي ببولاق مرارًا باستدعاء وبدون استدعاء ثم تزوج بمصر وأتى إليه ولده السيد مصطفى من البلاد زائرًا وما زال على حاله في عبادة وحسن توجه إلى الله مع طيب معاشرة وملازمة الأذكار وصحبة العلماء الأخيار حتى تمرض بعلة الاستسقـاء مـدة حتـى توفـي ليلـة الثلاثـاء غـرة جمـادى الأولـى من السنة وصلي عليه بالأزهر ودفن بالقرافـة بيـن يـدي شيخـه الحفنـي‏.‏

وكـان ابنـه غائبـًا فحضـر بعـد مـدة مـن موتـه فلم يحصل من ميراثه إلا شيئًا نزرًا وذهب ما جمعه من سفر الله حيث ذهب‏.‏

ومات الوجيه النبيل والجليل الأصيل السيد حسين باشيجاويش الأشراف بن إبراهيم كتخدا تفكجيـان بـن مصطفـى أفنـدي الخطـاط كـان إنسانـًا حسنـًا جامعـًا للفضائـل واللطـف والمزايا واقتنى كتبًا كثيرة في الفنون وخصوصًا في التاريخ وكان مألوف الطباع ودودًا شريف النفس مهذب الأخلاق فلم يخلف بعده مثله رحمه الله تعالى‏.‏

ومات الأمير محمد كتخدا أباظة وأصله من مماليك محمد جربجي الصابونجي ولما مات سيده كمـا تقـدم تركـه صغيـرًا فخـدم ببيتهم ثم عند حسين بك المقتول ولم يزل ينمو ويترقى في الخدم حتـى تقلـد كتخدائيـة محمـد بـك أبـي الذهـب فسـار فيهـا بشهامـة وصرامـة ولـم يزل مبجلًا بعده في أيام مماليكه معدودًا من الأمراء وله عزوة مماليك وأتباع حتى تعلل ومات في هذه السنة‏.‏

ومات التاجر الخير الصدوق الصالح الحاج عمر بن عبد الوهاب الطرابلسي الأصل الدمياطي سكن دمياط مدة وهو يتجر واختص بالشيخ الحفني فكان يأتي غليه في كل عام يـزوره ويراسله بالهدايا ويكرم مـن يأتـي مـن طرفـه وكـان منزلـه مـأوى الوافديـن مـن كـل جهـة ويقـوم بواجب إكرامهم وكان من عادته أنه لا يأكل مع الضيوف قط إنما يخدم عليهم ما داموا يأكلون ثـم يأكـل مـع الخـدم وهـذا مـن كمـال التواضع والمروءة‏.‏

وإذا قرب شهر رمضان وفد عليه كثيرة من مجاوري رواق الشوام بالأزهر وغيره فيقيمون عنده حتى ينقضي شهر الصوم في الإكرام ثم يصلهـم بعـد ذلـك بنفقـة وكسـاوي ويعـودون مـن عنده مجبورين‏.‏

وفي سنة ثلاث وثمانين حصلت له قضية مع بعض أهل الذمة التجار بالثغر فتطاول عليه الذمي وسبه فحضر إلى مصر وأخبر الشيخ الحفني فكتبوا له سؤالًا في فتوى وكتب عليه الشيخ جوابًا وأرسله إلى الشيخ الوالد فكتـب علـي جوابـًا وأطنـب فيـه ونقل من الفتاوى الخيرية جوابًا عن سؤال رفع للشيخ خير الدين الرملـي فـي مثـل هـذه الحادثـة بحـرق الذمـي ونحـو ذلـك وحضـر ذلك النصراني في أثر حضور الحاج عمـر خوفـًا علـى نفسـه وكـان إذ ذاك شوكـة الإسلـام قويـة فاشتغـل مع جماعة بمعونة كبار النصارى بمصر بعد أن تحققوا حصول الانتقام وفتنوهم بالمال فأدخلوا على شكوكا وسبكوا الدعوى في قالب آخر وذلك أنه لم يسبه بالألفاظ التي ادعاها الحاج عمر وأنه بعد التسابب صالحه وسامحه وغيروا صورة السؤال الأول بذلك وأحضروه إلى الوالد فامتنع من الكتابة عليه فعاد به الشيخ حسن الكفراوي فحلف لا يكتب عليه ثانيًا أبدًا وتغير خاطر الحاج عمر من طـرف الشيـخ واختل اعتقاده فيه وسافر إلى دمياط ولم يبلغ قصده من النصراني ومات الشيخ بعد هذه الحادثة بقليل‏.‏

وانتهت رياسة مصر إلى علي بك وارتفع شأن النصارى في أيامه بكاتبه المعلم رزق والمعلم إبراهيم الجوهري فعملوا على نفي المترجم من دمياط فأرسلوا له من قبض عليه في شهر رمضان ونهبوا أمواله من حواصله وداره ووضعوا في رقبته ورجليه القيد وأنزلوه مهانًا عريانًا مع نسائه وأولاده في مركب وأرسلوه إلى طرابلس الشام فاستمر بها إلـى أن زالـت دولـة علـي بـك واستقـل بإمارة مصر محمد بك وأظهر الميل إلى نصرة الإسلام فكلم السيد نجم الدين الغزي محمد بك في شأن رجوعه إلى دمياط فكان أن يجيب لذلك وكنت حاضـرًا فـي ذلـك المجلـس والمعلـم ميخاييـل الجمـل والمعلـم يوسـف بيطـار وقـوف أسفل السدلة يغمزان الأمير بالإشارة في عدم الإجابة لأنه من المفسدين بالثغر ويكون السبب في تعطيل الجمارك فسوف السيد نجم الدين بعد أن كان قرب من الإجابة‏.‏

فلما تغيرت الدولة وتنوسيت القضية وصـار الحـاج عمـر كأنه لم يكن شيئًا مذكورًا رجع إلى الثغر وورد علينا مصر وقد تقهقر حاله وذهبـت نضارتـه وصـار شيخـًا هرمـًا ثـم رجـع إلـى الثغـر واستمـر بـه حتـى توفـي فـي السنـة وكـان لـه مع الله حال يداوم على الإذكار ويكثر من صلـاة التطـوع ولا يشتغـل إلا بمـا يهمـه رحمـه اللـه تعالى‏.‏

ومات الأمير الجليل إبراهيم كتخدا البركاوي وأصله مملوك يوسف كتخدا عزبان البركاوي نشأ في سيـادة سيـده وتولـى فـي مناصـب وجاقهـم وقـرأ القـرآن فـي صغـره وجـود الخـط وحبـب إليـه العلـم وأهله‏.‏

ولما مات سيده كان هو المتعين في رئاسة بيتهم دون خشداشينه لرئاسته وشهامته ففتـح بيـت سيده وانضم إليه خشداشينه وأتباعه واشترى المماليك ودربهم في الآداب والقراءة وتجويد الخط وأدرك محاسن الزمن الماضي‏.‏

وكان بيته مأوى الفضلاء وأهل المعارف والمزايا والخطاطيـن واقتنـى كتبـًا كثيـرة جدًا في كل فن وعلم حتى أن الكتاب المعدوم إذا احتيج إليه لا يوجد إلا عنده ويعير للناس ما يرومونه من الكتب للانتفاع في المطالعة والنقل وبآخره اعتكف فـي بتـه ولـازم حاله وقطع أوقاته في تلاوة القرآن والمطالعة وصلاة النوافل إلى أن توفي في هذه السنة وتبددت كتبه وذخائره رحمه الله تعالى‏.‏

سنة تسع وتسعين ومائة وألف استهل العام بيوم الاثنين فكان الفال بالمنطق وأخذت الأشياء في الانحلال قليلًا‏.‏

وفي سابعه جاءت الأخبار بأن الجماعة المتوجهين لإبراعيم بك في شأن الصلح وهم الشيخ الدردير وسليمان بك الآغ ومرزوق جلبي اجتمعوا بإبراهيم بك فتكلموا معه في شأن ذلك فأجاب بشروط منها أن يكون هو على عادته أمير البلد وعلي أغا كتخدا الجاويشيه على منصبه‏.‏

فلما وصل الرسول بالمكاتبة جمـع مـراد بـك الأمـراء وعرفهـم ذلـك فأجابـوا بالسمـع والطاعة وكتبوا جواب الرسالة وأرسلوها صحبة الذي حضر بها‏.‏

وسافر أيضًا أحمد بك الكلارجي أغا أمين البحرين في حادي عشرة‏.‏

وفي عشرينه وصلت الأخبار بأن إبراهيم بك نقض الصلح الذي حصل وقيل أن صلحه كان مداهنة لأغراض لا تتم له بدون ذلك فلما تمت احتج بأشياء أخر ونقض ذلك‏.‏

وفي سادس صفر حضر الشيخ الدردير وأخبر بما ذكر وأن سليمان بك وسليم أغا استمروا معه‏.‏

وفـي منتصفـه وصـل الحجاج من أمير الحاج مصطفى بك وحصل الحجاج في هذه السنة مشقة عظيمـة مـن الغـلاء وقيـام العربـان بسبـب عوائدهـم القديمة والجديدة ولم يزوروا المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام لمنع السبل وهلك عالم كثير من الناس والبهائم من الجوع وانقطـع منهـم جانـب عظيـم‏.‏

ومنهـم مـن نـزل فـي المراكـب إلـى القلـزم وحضر من السويس إلى القصير ولـم يبـق إلا أميـر الحـج وأتباعـه ووقفـت العربـان لحجـاج المغاربـة في سطح العقبة وحصروهم هناك ونهبوهـم وقتلوهـم عـن آخرهـم ولـم ينـج منهـم غـلا نحـو عشرة أنفار‏.‏

وفي أثناء نزول الحج وخروج الأمـراء لملاقـاة أميـر الحـج هـرب إبراهيـم بك الوالي وهو أخو سليمان بك الأغا وذهب إلى أخيه بالمنية وذهب صحبته من كان بمصر من أتباع أخيه وسكن الحال أيامًا‏.‏

وفي أواخر شهر صفر سافر أيوب بك الكبير وأيوب بك الصغير بسبب تجديد الصلح فلما وصلـوا إلـى بنـي سويف حضر إليهم سليمان بك الأغا وعثمان بك الأشقر باستدعاء منهم ثم أجاب إبراهيم بك إلى الصلح ورجعوا جميعًا إلى المنية‏.‏

وفـي أوائـل ربيـع الـأول حضـر حسـن أغـا بيـت المـال بمكاتبـات بذلك وفي أثر ذلك حضر أيوب بك الصغيـر وعثمـان بـك الأشقـر فقابـلا مـراد بكوقـدم مـراد بـك لعثمـان بـك تقـادم ثـم رجـع أيـوب بـك إلى المنية ثانيًا‏.‏

وفي يوم الاثنين رابع ربيع الثاني وصل إبراهيم بك الكبير ومن معه من الأمراء إلى معادي الخبيري بالبر الغربي فعدى إليه مراد بك وباقي الأمـراء والوجاقليـة والمشايـخ وسلمـوا عليـه ورجعـوا إلـى مصـر وعـدى فـي أثرهـم إبراهيـم بـك ثـم حضـر إبراهيـم بـك فـي يـوم الثلاثاء إلى مصر ودخل إلى بيته وحضر إليه في عصريتها مراد بك في بيته وجلس معه حصة طويلة‏.‏

وفـي يـوم الأحـد عاشـره عمـل الديـوان وحضرت لإبراهيم بك الخلع من الباشا فلبسها بحضرة مراد بك والأمراء والمشايخ وعند ذلك قام مراد بك وقبل يده وكذلك بقية الأمراء وتقلد علي أغاء كتخـدا الجاويشية كما كان وتقلد علي أغا أغات مستحفظان كما كان فاغتاظ لذلك قائد أغا الـذي كـان ولـاه مـراد بـك وحصـل لـه قلـق عظيم وصار يترامى على الأمراء ويقع عليهم في رجوع منصبـه وصـار يقـول‏:‏ إن لـم يـردوا إلـي منصبـي وإلا قتلـت علـي أغـا‏.‏

وصمـم إبراهيـم بـك علـى عدم عـزل علـي أغـا واستوحـش علـي أغـا وخـاف على نفسه من قائد أغا ثم أن أبراهيم بك قال‏:‏ إن عـزل علـي أغـا لا يتولاها قائد أغا أبدًا‏.‏

ثم إنهم لبسوا سليم أغا أمين البحرين وقطع منها أمل قائد أغا وما وسعه إلا السكوت‏.‏

وفي منتصف جمادى الآخرة خرج عثمان بك المذكور بمماليكه وأجناده مسافرًا إلى الصعيد بنفسه ولم يسمع لقولهم ولم يلبس تقليدًا لذلك على العادة فأرسلوا له جماعة ليردوه فأبى من الرجوع‏.‏

وفيه كثر الموت بالطاعون وكذلك الحميات ونسي الناس أمر الغلاء‏.‏

وفي يوم الخميس مات علي بك أباظة الإبراهيمي فانزعج عليه إبراهيم بـك وكـان الأمـراء خرجـوا بأجمعهـم إلـى ناحيـة قصـر العينـي ومصـر القديمـة خوفـًا مـن ذلـك‏.‏

فلما مات علي بك وكثير من مماليكهم داخلهم الرعب ورجعوا إلى بيوتهم‏.‏

وفي يوم الأحد طلعوا إلى القلعة وخلعوا علي لاجين بك وجعلوه حاكم جرجًا ورجع إبراهيم بك إلى بيته أيضًا وكان إبراهيم بك إذ ذاك قائمقام‏.‏

وفيه مات أيضًا سليمان بك أبو نبوت بالطاعون‏.‏

وفي منتصف رجب خف أمر الطاعون‏.‏

وفـي منتصـف شعبـان ورد لخبـر بوصـول بـاش مصـر الجديـد إلى ثغر سكندرية وكذلك باش جدة ووقـع قبـل ورودهمـا بأيام فتنة بالإسكندرية بين أهل البلد وأغات القلعة والسردار بسبب قتيل من أهل البلد قتله بعض أتباع السردار فثار العامة وقبضوا على السردار وأهانوه وجرسوه على حمار وحلقوا نصف لحيته وطافوا به البلد وهو مكشوف الرأس وهم يضربونه ويصفعونه بالنعالات‏.‏

وفيـه أيضـًا وقعـت فتنـة بيـن عربـان البحيـرة وحضـر منهـم جماعـة إلـى إبراهيـم بـك وطلبـوا منـه الإعانـة على أخصامهم فكلم مراد بك في ذلك فركب مراد بك وأخذهم صحبته ونزل إلى البحيرة فتواطـأ معـه الأخصـام ورشـوه سـرًا فركـب ليـلًا وهجـم علـى المستعينيـن بـه وهـم في غفلة مطمئنين فقتل منهم جماعة كثيرة ونهب مواشيهم وإبلهم وأغنامهم ثم رجع إلى مصر بالغنائم‏.‏

وفـي غايـة شعبـان حضـر باشـة جـدة إلـى ساحـل بولـاق فركـب علـي أغا كتخدا الجاويشية وأرباب وفي غرة رمضان ثارت فقراء المجاورين والقاطنين بالأزهر وقفلوا أبواب الجامع ومنعـوا منـه الصلوات‏.‏

وكان ذلك يوم الجمعة فلم يصل فيه ذلك اليوم وكذلك أغلقوا مدرسة محمد بك المجاورة له ومسجد المشهد الحسيني وخرج العميان والمجاورون يرمحون بالأسواق ويخطفون ما يجدونه من الخبز وغيره وتبعهم في ذلك الجعدية وأرذال السوقة‏.‏

وسبب ذلك قطع رواتبهم وأخبازهم المعتادة واستمروا على ذلك إلى بعد العشاء فحضر سليم أغا أغات مستحفظان إلى مدرسة الأشرفية وأرسل إلى مشايخ الأروقة والمشار إليهم في السفاهة وتكلـم معهـم ووعدهم والتزم لهم بإجراء رواتبهم فقبلوا منه ذلك وفتحوا المساجد‏.‏

وفي يوم الأحد ثامن شهر شوال الموافق لتاسع مسرى القبطي كان وفاء النيل المبارك وكانت زيادتـه كلها في هذه التسعة أيام فقط ولم يزد قبل ذلك شيئًا واستمر بطول شهر أبيب وماؤه أخضر فلما كان أول شهر مسرى زاد في ليلة واحدة أكثر من ثلاثة أذرع واستمرت دفعات الزيادة حتى أوفى أذرع الوفاء يوم التاسع وفيه وقع جسر بحر أبي المنجا بالقلوبية فيعينوا له أميـرًا فأخـذ معـه جملة أخشاب ونزل وصحبته ابن أبي الشوارب شيخ قليوب وجمعوا الفلاحين ودقوا له أوتادًا عظيمة وغرقوا به نحو خمسة مراكب واستمروا في معالجة سده مدة أيام فلم ينجع من ذلك شيء وكذلك وقع ببحر مويس‏.‏

وفـي يـوم الاثنيـن ثامـن عشـر القعـدة سافـر كتخـدا الجاويشيـة وصحبتـه أربـاب الخدم إلى الإسكندرية لملاقاة الباشا والله تعالى أعلم‏.‏

من مات في هذه السنة ممن له ذكر مات الشيخ الإمام العارف المتفنن المقرئ المجود الضابط الماهر المعمر الشيخ محمد بن حسن بن محمد بن أحمد جمال الدين بن بدر الدين الشافعي الأحمدي ثم الخلوتي السمنودي الأزهري المعروف بالمنير ولد بسمنود سنـة 1099 وحفـظ القـرآن وبعـض المتـون وقـدم الجامـع الأزهـر وعمره عشرون سنة فجود القرآن على الإمام المقرئ علي بن محسن الرملي وتفقه على جماعة منهـم الشيـخ شمـس الديـن محمـد السجيمي والشيخ علي أبي الصفا الشنواني وسمع الحديث على أبي حامد البديري وأبي عبد الله محمد بن محمد الخليلي وأجازه في سنة 1132 وأجازه كذلـك الشيـخ محمد عقيلة في آخرين وأخذ الطريقة ببلده على سيدي علي زنفل الأحمدي ولما ورد مصـر اجتمـع بالسيـد مصطفـى البكري فلقنه طريقة الخلوتية وانضوى إلى الشيخ شمس الدين محمد الحفني فقصر نظره عليه واستقام به عهده فأحياه ونور قلبه واستفاض منه فلم يكن ينتسـب فـي التصوف إلا إليه‏.‏

وحصل جملة من الفنون الغريبة كالزايرجة والأوفاق على عدة من الرجال وكان ينزل وفق المائة في المائة وهو المعروف بالمئيني ويتنافس الأمراء والملوك لأخذه منـه وأحـدث فيهـا طرقـًا غريبة غير ما ذكره أهل الفن وقد أقرأ القرآن مدة وانتفع به الطلبة وقرأ الحديـث‏.‏

وكـان سنـده عاليـًا فتنبـه بعـض الطلبـة فـي الأواخـر فأكثـروا الأخـذ عنـه‏.‏

وكان صعبًا في الإجازة لا يجيز أحدًا إلا إذا قرأ عليه الكتاب الذي يطلب الإجازة فيه بثمامه ولا يرى الإجازة المطلقة ولا المراسلة حتى أن جماعة من أهالي البلاد البعيدة أرسلوا يطلبون منه الإجازة فلم يرض بذلك وهذه الطريقة في مثل هذه الأزمان عسرة جدًا‏.‏

وفي أواخره انتهى إليه الشأن وأشيـر إليـه بالبنـان وذهبـت شهرتـه في الآفاق وأتته الهدايا من الروم والشام والعراق وكف بصره وانقطـع إلـى الذكـر والتدريـس فـي منزلـه بالقـرب مـن قنطـرة لموسكـي داخـل العطفـة بسويقـة الصاحب ولازم الصوم نحو ستين عامًا ووفدت عليه الناس من كل جهة وعمر حتى ألحق الأحفاد بالأجداد وأجاز وخلف وربما كتـب الإجـازات نظمـًا علـى هيئـة إجـازات الصوفيـة لتلامذتهـم فـي الطريـق ولـم يـزل يبـدي ويعيـد ويعقـد حلـق الذكـر ويفيـد إلـى أن وافاه الأجل المحتوم في هـذه السنـة وجهـز وكفـن وصلـي عليـه بالأزهر في مشهد حافل وأعيد إلى الزاوية الملاصقة لمنزله وكثر عليه الأسف‏.‏

ومـات الشيـخ الإمام الفاضل الصالح علي بن علي بن علي بن علي بن مطاوع العزيزي الشافعي الأزهري أدرك الطبقة الأولى من المشايخ كالشيخ مصطفى العزيـزي والشيـخ محمـد السحيمـي والدفري والملوي وأضرابهم وتفقه عليهم ودرس بالجامع الأزهر وانتفع به الطلبة وقرأ دروسًا بمشهـد شمـس الديـن الحنفـي وكـان يسكـن فـي بولـاق ويأتـي كـل يوم إلى مصر لإلقاء الدروس‏.‏

وكان إنسانـًا حسنـًا صبـورًا محتسبـًا فصيحـًا مفوهـًا لـه اعتقـاد فـي أهـل اللـه‏.‏

توفـي تاسـع ربيـع الثانـي سنة تسع وتسعين هذه‏.‏ ومات